من شهاب الى عون: طموحات وخلافات

عاجل

الفئة

shadow

*كَتَبَ جورج ياسمين*

لم يسمع زوار بكركي من البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي سوى الإصرار على أن يكون تعيين قائد جديد للجيش حقًا حصريًا لرئيس الجمهورية العتيد بعد أن يأتي الى بعبدا. هذا الكلام سمعه مسؤولون سياسيون وحزبيون وأمنيون من البطريرك الراعي.

هذا الموقف سبق ورافق المساعي الآيلة الى التمديد لقائد الجيش الحالي العماد جوزف عون أو الى تعيين قائد جديد للجيش واستكمال الشواغر في المجلس العسكري وتعيين رئيس الأركان في المؤسسة وهو منصب محفوظ للطائفة الدرزية منذ كان اللواء فؤاد شهاب قائدًا للجيش ورئيسًا للجمهورية عندما أوكل رئاسة الأركان الى العميد الراحل المخضرم المجرَّب يوسف شميط. كان شميط محط ثقة الرئيس شهاب وموقع احترام وتقدير كبيرين في الفترة الشهابية وداخل المؤسسة العسكرية لما عُرف عنه من مناقبية ونزاهة واقتدار. 

تمسكت بكركي اليوم واسلاف البطريرك الراعي بهذا التقليد – العرف لِمَا كان من ارتباط يعطي ثنائية رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش رمزية مارونية وحالة سياسية أعقبت ورافقت حقبة الاستقلال منذ 1943. 

لم يستسغ البطريرك الراعي فكرة تعيين قائد جديد للجيش وان كان الاسم المطروح يحظى بالاحترام والثناء. ولم يتقبّل فكرة تولّي الضابط الأعلى رتبة – ولو كان مسيحيًا كاثوليكيًا – مهام الأمرة على المؤسسة، ولم يوافق على أن يكون رئيس الأركان مكان قائد الجيش – بالرغم من أن اللواء شوقي المصري رئيس الأركان السابق تولى مهام قيادة الجيش عندما انتخب العماد ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية في أيار 2008 وبقي الجيش دون قائد حتى أيلول من العام نفسه عندما عين مجلس الوزراء العماد جان قهوجي قائدًا للجيش خلفًا للعماد (الرئيس) ميشال سليمان. لم يكن هناك مشكلة لأنه تمّ انتخاب رئيس للجمهورية كان في الوقت عينه قائدًا للجيش.

ثمة مقولة متعارف عليها ومتناقلة ومتوارثة مفادها ان رئيس الجمهورية هو الذي يسمّي قائد الجيش (بالرغم من أن الطائف نقل هذه الصلاحية الى مجلس الوزراء وعبر اقتراح وزير الدفاع للاسم)، لكن الرغبة بعد الطائف أن تبقى هناك مونة ودالة لرئيس الجمهورية في هذه التسمية.

الواقع الذي تخالفه وتناقضه الوقائع والمجريات منذ 1943 كان غير ذلك. في الحقيقة نادرًا ما كان اختيار قائد الجيش من حصة رئيس الجمهورية أو كان رأس المؤسسة العسكرية خيارًا وقرارًا لرئيس الجمهورية باستثناء حالات قليلة جدًا أبرزها مع الرئيس العماد ميشال عون الذي اختار العماد جوزف عون قائدًا للجيش مخالفًا رغبة وآراء وتحفظات الحلقة الضيقة المحيطة به وأبرز من فيهم النائب جبران باسيل.

بداية مع الرئيس بشارة الخوري. أول رئيس للبنان بعد الاستقلال سنة 1943. كان فؤاد شهاب (اللواء والرئيس لاحقًا) قائد الفوج الأول من القناصة اللبنانية أو ما عُرف بنواة الجيش اللبناني. شهاب خريج المدرسة الحربية في دمشق زمن الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا، كان الضابط الأكثر حضورًا واحترامًا بين أقرانه في الجيش الفتي الناشئ والى جانبه ضباط كبار مثل جميل لحود وفؤاد حبيش وسليمان نوفل وجان عزيز غازي والكسندر عرقتنجي ومحمد اليافي وعبدالله الحاج وغيرهم…
تسلّم لبنان في أول آب 1945 جيشه الوطني من هيئة أركان حرب القيادة المختلطة البريطانية – الفرنسية. ومنذ ذلك التاريخ صار الأول من آب عيد الجيش. وصار فؤاد شهاب بعد عام قائدًا للجيش بتزكية من بشارة الخوري ورياض الصلح بعد جلاء الفرنسي عن لبنان.
شهاب كان موجودًا وحاضرًا واضطر بشارة الخوري للمفاضلة بينه وبين سليمان نوفل وقيصر زهران يمين وآلت اليه القيادة.

في عهد الرئيس كميل شمعون كان شهاب أيضًا موجودًا وفاعلاً وبدا وكأنه المرشح الأوفر حظًا لخلافة بشارة الخوري لكن الرياح الغربية – البريطانية اختارت كميل شمعون وتجاهلت شهاب الفرنسي الهوى والثقافة والتربية العسكرية. جاء شمعون لكن شهاب بقي قائدًا للجيش وهذا ما لم يعجب شمعون الذي رأى في شهاب ندًا خطيرًا ومنافسًا جديًا مقبولاً عند أخصامه – أي أخصام شمعون – لم يكن شهاب خيار شمعون.

في عهد فؤاد شهاب تولى اللواء توفيق سالم قيادة الجيش لأقل من أربعة أشهر من تشرين 1958 الى كانون الثاني 1959 ومن ثم عيّن شهاب نسيبه وقريبه الأمير عادل شهاب قائدًا للجيش من 1959 حتى 1965. لكن فؤاد شهاب بقي القائد الفعلي والأب الروحي والمعلّم – كما كان يسميه أنطوان سعد رئيس المكتب الثاني – للشهابيين وخصوصًا العسكر.

في عهد شارل حلو لم يكن للرئيس الجزويتي المثقف الواسع المدارك والسفير اللبناني في الفاتيكان والابن البار للكنيسة المارونية – الكاثوليكية، لم يكن لشارل حلو الخيار والقرار في اختيار أميل البستاني قائدًا للجيش.
البستاني المعروف بالجدية والوقار والهيبة لم يكن من أقرب الضباط للشهابيين لكنه كان خيار أنطوان سعد وغابي لحود (الذي خلف أنطوان سعد في رئاسة المكتب الثاني).
صحيح ان شارل حلو اختاره فؤاد شهاب لكنه سرعان ما بدأ يبتعد عن شهاب والشهابيين منذ دخل قصر سن الفيل (المقر القديم لرئاسة الجمهورية) ولم يكن بينه وبين الشهابية كثير تعاطف وود. جاؤوا بأميل البستاني ورضخ حلو.

في عهد الرئيس سليمان فرنجية – خصم الشهابية الشرس – كان العماد أميل البستاني أقيل من مهامه في أواخر عهد شارل حلو في كانون الثاني 1970، بسبب طموحاته الرئاسية التي رافقت واعقبت توقيع اتفاقية القاهرة في تشرين الثاني 1969.
يومها اتفق شارل حلو ورشيد كرامي وغابي لحود على “تطيير” البستاني الذي كان يحظى بدعم الرئيس المصري جمال عبد الناصر وتعاطف ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير. كان عرفات وعبد الناصر يدعمانه للرئاسة.
طار البستاني وأقيل وجاء الشهابيون بجان نجيم قائدًا للجيش في 5 كانون الثاني 1970 وأورثوا التركة للرئيس فرنجية الذي لم يستسغ الشهابيين يومًا ولم يتحمل وجود قائد للجيش من صفهم، بالرغم من أن جان نجيم لم يكن من غلاة الشهابية وصقورها بل من السائرين في ركبها اقتناعًا واحترامًا للرئيس فؤاد شهاب.

كان الرئيس فرنجية يريد قائدًا للجيش من المقربين وليس من الشهابيين لكنه استعاض عن ذلك بالامساك بالجيش ومنعه من التدخل في السياسة وفكفكة المكتب الثاني ومحاكمة ضباطه وإبعاد الرؤوس الكبيرة الى الخارج.

ما حدث في تموز 1971 أعاد خلط الأوراق. اصطدمت المروحية التي تقل قائد الجيش جان نجيم بجبل إيطو وهوى قائد الجيش قتيلاً عائدًا من زيارة للرئيس فرنجية في أهدن. قيل الكثير يومها لكن التحقيقات خلصت الى أن سقوط المروحية سببه الضباب الكثيف.

بعد يوم على وفاة نجيم تمّ استدعاء إسكندر غانم من الاحتياط ورقي لرتبة عماد وعيّن قائدًا للجيش. لم يكن غانم (الذي يتهمه المسلمون بالتقاعس عن رد الاعتداء الإسرائيلي على مطار بيروت العام 1968 ولاحقًا في نيسان 1973 عندما تمّ اغتيال القادة الفلسطينيين في فردان) الخيار المفضل عند فرنجية. لكن غانم كان يكره الشهابيين. الرجل كان عدو الشهابية وهذا كان المطلوب.
مع بداية الحرب اللبنانية العام 1975 لم يصمد إسكندر غانم في موقفه لأكثر من 5 أشهر. لا المسلمون يحبونه ولا المسيحيون يتعاطفون معه. 

يومها، وفي أيلول من العام نفسه، اختار الرئيس كميل شمعون العماد حنا سعيد ابن القليعة والشمعوني الهوى والانتماء قائدًا للجيش. لم يكن لفرنجية الخيار بل الموافقة والمباركة – هذا لا يعني ان فرنجية كان متساهلاً أو ليّنًا تجاه الفلسطينيين أو المسلمين بل يرى فيه بعض مؤرخي الحرب اللبنانية الرئيس الماروني الأكثر تشددًا منذ الاستقلال – جاء يومها حنا سعيد الشمعوني.

في عهد الياس سركيس، الابن البار للرئيس شهاب والشهابيين، كان ابن الشبانية يرغب ويريد تعيين غابي لحود قائدًا للجيش. رفض بشير الجميل وكميل شمعون والجبهة اللبنانية. أراد شمعون إبقاء حنا سعيد الذي غالى في انحيازه الى الأحزاب المسيحية أثناء الحرب كما يتهمه المسلمون. يومها طلب الشيخ بيار الجميل من الرئيس سركيس تعيين فكتور خوري قائدًا. لم يكن خوري اختيار سركيس بل بيار الجميل.

في عهد أمين الجميل الكتائبي تمّ اختيار إبراهيم طنوس الضابط المقاتل الشجاع ابن القبيات قائدًا للجيش. حاول غابي لحود مجددًا فلم يفلح. لم يرد أمين الجميل الوارث لشقيقه الشهيد بشير في بعبدا أن يقف حائلاً أمام وصول ضابط مقاتل قريب من الجبهة اللبنانية. فكان اختيار إبراهيم طنوس الذي لم يكمل ولايته واستقال – أو أقيل – العام 1984 ليخلفه العقيد ميشال عون الذي رقي الى رتبة عماد دفعة واحدة ليصبح قائدًا للجيش.
الجميع يعرف أن لا كيمياء بين عون والجميل.
عون كان صديقًا لبشير وللقوات وليس لأمين الجميل وكان المطلوب إقالة طنوس.
جاء عون ولم يكن لأمين الجميل إلا القبول.

في عهد الياس الهراوي (الشمعوني الهوى) كان ابن عروس البقاع يريد تعيين احد الأخوين حروق قائدًا للجيش وكان السوريون يؤيدون فهيم الحاج ابن المروج. لم يكن يرغب بتعيين العماد أميل لحود لكن اللواء جميل السيد ووفق ما يرويه الصحافي المرموق نقولا ناصيف في كتابه جيوش لبنان، أقنع السوريين بأن لحود هو الأكثر ملائمة لهذه المرحلة – علمًا أن لحود من بيت سياسي – عسكري عريق له منزلته واحترامه في الحياة السياسية اللبنانية. جاء أميل لحود ولم يكن خيار الهراوي.

في عهد أميل لحود لم يكن خيار ابن بعبدات ان يكون العميد ميشال سليمان قائدًا للجيش. لعبت العلاقة الوثيقة بين سليمان والقيادة السورية دورها في ترجيح كفته وصار العماد سليمان قائدًا للجيش. 

في عهد ميشال سليمان، كان جورج خوري (مدير المخابرات والسفير اللبناني في الفاتيكان لاحقًا) قاب قوسين أو أدنى من قيادة الجيش. اتفق الحزب وسعد الحريري على تعيين جان قهوجي وصار الذي صار وكان ما كان.

في عهد ميشال عون، كان قرار وخيار ابن حارة حريك واضحًا عند البداية: جوزف عون قائدًا للجيش.
عارض جبران باسيل – ولما يزل – لكن رئيس الجمهورية ضرب بيده على الطاولة يومها وقال للمحيطين به: انا قررت جوزف عون وانتهى النقاش. بقي جبران يردّد ان جوزف عون هو خيار أميركي.

في الخلاصة، وفي لبنان، منذ المتصرفية والانتداب والاستقلال والطائف هناك من يسمّي ومن يختار لكن الكلمة الأخيرة تبقى لصاحب القرار وغالبًا ما يكون وراء البحار…

الناشر

1bolbol 2bolbol
1bolbol 2bolbol

shadow

أخبار ذات صلة